هل التجربة هي التي تجعل من العلم علما؟

هل التجربة هي التي تجعل من العلم علما؟

طــــــرح المــــشــــكــــــــــلــــة:

يـعرف ارسطو المنهج بانه الطريق أو السبيل للوصول الى الحقيقة وهذا الاخير شهدت منه البشرية أنواعا عديدة (المنهج الاستدلالي ، الجدلي ، استنباطي ...) وقد برز في الفترة الاخيرة المنهج التجريبي والذي وقع حوله الكثير من الجدل والخلافات بين الفلاسفة والمفكرين، فهناك ، من يعتبر المنهج التجريبي مقياس ومنهج جميع العلوم ، وهناك من يعتبره منهج مثل بقية المناهج الاخرى ولا يمكن الحكم على مصداقية العلوم من خلاله ، وهذا مايجعلنا نحن ايضا نتسائل ونقول : هل تعتبر التجربة هي المقياس الذي نحكم من خلاله على علمية أي علم ، وبعبارة أخرى هل التجربة هي التي تجعل من العلم علما؟

مــــحـــــاولــــــة حـــــل المـــشـــــكـــــلـــــة:

*يرى أنصار الموقف الاول ومن بينهم فرنسيس بيكون وكلود برنار ان التجربة هي مقياس العلم ومن خلال هذا المقياس نحكم علمية العلوم فالعلوم التي تطبق المنهج التجريبي هي علوم أما التي لا تطبق التجربة فهي تفتقر للمصداقية العلمية ولا يمكن وصفها بصفة العلم ، واستدلو بادلة كثيرة اخرى نذكر منها:
-بفضل تطبيق العلوم للمنهج التجريبي تحررت واستقلت عن الفلسفة ، واصبحت علوما قائمة بذاتها ، فحققت هذه العلوم نتائج عديدة مبهرة وخير مثال على ذلك هو علم الفيزياء والتي عرفت ذروتها وقمتها مع الابحاث التجريبية التي قام بها عمي غاليلو وعمي نيوتن.
-ان المنهج التجريبي يقوم على خطوات ضرورية وهي الملاحظة الفرضية التجربة وهي مرتبطة فيما بينها ارتباطا وثيقا اذ يقول كلود برنار ( ان الظاهرة توحي بالفكرة والفكرة تقودنا الى التجربة والتجربة تحكم بدروها على الفكرة) ،
-فكل خطوة لها هدف ، فالملاحظة تنقل لنا الصور الحسية للظاهرة كما هي على حقيقتها ، لتاتي الفرضية معبرة عن فهم الباحث لموضوع دراسته ، واخيرا التجربة التي نتاكد من خلالها على صدق او كذب الفرضية ، وهذا ان دل على شيء فإنه يدل على سعة هذا المنهج ومرونته وتكيفه مع مختلف الموضوعات يقول كلود برنار ( ان التجريب هو الوسيلة الوحيدة التي نمتلكها لنتطلع على حقيقة الاشياء) لهذا فان التجربة هي التي تحكم على مدى التحاق مساعي الابحاث العلمية بمصف العلوم.
*بالرغم من أهمية المنهج التجريبي وانبهار العلوم بالنتائج التي يحققها ، إلا أن ذلك لا يمنع من القول بأنه لا يعتبر مقياس لعلمية العلوم ، فالرياضيات مثلا تطبق المنهج الاستنباطي ونسميها علم الرياضيات حتى أن النتائج التي تحققها الرياضيات تعتبر يقينية وهذا ماجعل الكثير من العلوم تقتدي بالرياضيات كما ان المنهج يطبق على أساس الموضوع وليس المقياس التجريبي هو المعيار الوحيد ، فمثلا علم الاجتماع يطبق المنهج الوصفي علم التاريخ يطبق المنهج التاريخي .. وهكذا.
*لهذا يرى انصار الموقف الثاني ومن بينهم بوانكريه وبوال ان التجربة ليست المعيار الوحيد الذي يؤسس العلم ويجعله علما ، كما أنها ليست المقياس الأوحد والضروري لذلك واستدلو بادلة كثيرة نذكر منها:
-ان العلوم أصناف عدة ، منها العلوم التي تدرس المادة الجامدة كالكيمياء والفيزياء ... وأخرىتدرس المادة الحية كالبيولوجيا وصنف اخر يدرس الظواهر المتعلقة بالانسان كالتاريخ علم النفس، علم الاجتماع، ومادامت هذه العلوم مختلفة ينبغي أن تكون المناهج مختلفة ومتنوعة ، حتى أن المنهج التجريبي وإن يجد سهولة في علوم المادة الجامدة فإنه يلاقي صعوبات وعراقيل في علوم المادة الحية وخاصة في العلوم الإنسانية ويقول بوانكريه ( نستطيع أن نسأل الطبيعة دائما لكنها لا تجيب بل نجيب نحن بدلها).
-كما أن بعض العلوم لا يمكن أن نقيم عليها بالتجربة لتعذر ذلك كعلم الفلك ورصد الاحوال الجوية ، ويدل ذلك على محدودية المنهج التجريبي وقصوره عن فهم الظواهر المتنوعة وسدا لهذ النقص يلجا العلماء في المنهج التجريبي لسوابق احكام غير مؤكدة "السببية ، الحتمية ، اطراد الظواهر" وهذه الاخيرة تضرب مصداقية التجريب وتجعلنا نشك في النتائج التي يصلون إليها ومثال ذلك ماحصل لرواد الفضاء حينما أخطأو هدفهم وكذلك مايحدث مع الارصاد الجوية اذ تاتي بتنبؤات مخالفة احيانا للواقع.
-ومن الملاحظ ايضا أن الادوات المستخدمة في التجربة قد تكون قاصرة وقليلة فلا عجب أن يخطئ المرء بسبب عدم استعانته بالوسائل وقلتها.
*لقد وفق انصار هذا الموقف فيما ذهبو اليه ولكن ماتجاهله هؤلاء ان المنهج التجريبي يبقى الاكثر شيوعا واستخداما في مختلف العلوم كما ان العلوم التي لا تطبقه تسعى دوما الى استعماله مما يدل على فائدته واهميته في مجال البحث العلمي ، فلا ينبغي أن ننسى انه بفضله استقلت العلوم عن الفلسفة.
التركـيـب:لتجاوز الخلاف بين الاطروحتين نقول تعتبر مقياس في الميدان العلمي ، إلا انه ورغم اهميتها لا تعد المقياس الوحيد بمعنى ان هناك مقاييس اخرى وهذا راجع لاختلاف المواضيع التي تحدد المنهجية ويقول عبد الرحمن بدوي (المنهج هو الطريق المؤدي للكشف عن الحقيقة في العلوم إلا انه متعدد نظرا لاختلاف العلوم) وهكذا ندرك انه مادامت العلوم مختلفة كانت المناهج متنوعة والوسائل المعمول بها عديدة فلا يعقل مثلا ان نطبق المنهج التجريبي على ظاهرة الانتحار فالاجدر لدراسة هذه الظاهرة هو المنهج الوصفي وهكذا مع الظواهر المختلفة .

حــــــل المــــشـــــكـــــلـــــــة:

واخيرا ومما سبق نستنتج ان المنهج التجريبي يحظى بمكانة مرموقة في الساحة العلمية اذ يعتبر سلطان المناهج في الفترة الحديثة والمعاصرة اذ يصفه فرنسيس بيكون بقوله (إن المعرفة ليست نقاشا أو زينة بل تجربة علينا القيام بها) لكن مع كل هذا فالنظرة الفلسفية تجعلنا نقول بانه ليس المعيار الوحيد للحكم على علمية العلوم والواقع أن المناهج العلمية لابد أن تعدل فالتطبيق العلمي في اختلاف باستمرار والنتيجة لهذا ان المناهج في تغير وهذا التغير يتعين بتقدم العلم وحاجاته المختلفة.